تغيرات الدور الاقتصادي للنساء في منطقة شرق الفرات في دير الزور بين عامي 2018-2024

مصدر الصورة: منسقية المرأة


 وضعت الحرب المرأة السورية ضمن واقع جديد، حمّلها أعباء ثقيلة، ومنحها في الوقت نفسه فرصاً لم تكن لتحصل عليها لولا التغيرات التي أفرزتها الحرب.

قبل الثورة كانت الأدوار العامة للمرأة على مستوى البلاد عموماً، وعلى مستوى محافظة دير الزور بالخصوص محدودة. حيث عانت المرأة في دير الزور من ضعف المشاركة الاقتصادية، ومن تدني مستواها التعليمي. ففي العام 2010 على سبيل المثال بلغت نسبة الناشطات اقتصادياً في المحافظة 17 بالمئة من النساء.

وفي سنوات الحرب التي شهدتها محافظة دير الزور بين عامي 2012 و2019، تدهور الوضع الإنساني بشكل حاد، حيث فقدت كثير من العائلات مصادر رزقها وهجرت منازلها طلباً للأمان في موجات نزوح داخل وخارج المحافظة. كما تسببت الحرب بانقسام محافظة دير الزور بين عامي 2018 و2019، إلى منطقتي سيطرة تقع إحداهما تحت سيطرة النظام غرب نهر الفرات، وتقع الأخرى تحت سيطرة الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) شرق النهر.

تتناول هذه الورقة الدور الاقتصادي للمرأة في منطقة الإدارة الذاتية في دير الزور، وتحاول تحديد التغيرات الرئيسية التي طرأت على هذا الدور وتحليل العقبات التي تحد من تطور المشاركة الاقتصادية للنساء في المنطقة.

في عهد الإدارة الذاتية ماذا تحقق اقتصادياً للنساء في دير الزور؟

 اتسعت المشاركة الاقتصادية للنساء بدءاً من العام 2018، نتيجة لثلاثة عوامل رئيسية، هي الفرص السياسية والاقتصادية التي منحتها الإدارة الذاتية للمرأة، والآثار الاقتصادية للحرب التي دفعت بأعداد متزايدة منهن للبحث عن مصادر دخل تلبي متطلبات العيش، وتنامي قطاع المجتمع المدني الذي ساهم في ترويج ثقافة العمل في أوساط النساء.

 وأقرت وثيقة العقد الاجتماعي وهي شبه دستور للإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا، حقوقاً متساوية للمرأة مع الرجل، ومنحتها منصب الرئاسة المشتركة في جميع المجالس التمثيلية والتنفيذية والتنظيمات التابعة لها في دير الزور. وفرضت تمثيلاً بنسبة 50 بالمئة للنساء في هذه المجالس.

انطلاقاً من هذه الوثيقة أو بتأثيرها، تأسست هياكل الحوكمة في منطقة شرق الفرات في دير الزور. وتثبت المؤشرات العددية السمة الجندرية في تركيب السلطة على المستوى المحلي. حيث وجدت النساء ترحيباً رسمياً بانخراطهن في هياكل الحوكمة الناشئة، لتصبح هذه الهياكل مشغِلاً رئيسياً للنساء وخصوصاً منهن المتعلمات من الإعدادية فما فوق. وفي العام 2024 وصلت نسبة الموظفات داخل المؤسسات والمجالس والتنظيمات المتنوعة التابعة للإدارة الذاتية في دير الزور 39 بالمئة، فمن أصل 13500 موظفاً تقريباً (رجال ونساء) يعملون لدى الإدارة الذاتية في دير الزور، يبلغ عدد الموظفات نحو 5200. وتركزت وظائف النساء في قطاع التربية والتعليم ثم وبنسبة أقل في قطاع الصحة، ففي بداية العام الدراسي 2024-2025 بلغ عدد المعلمات 4158 معلمة يقابلهن 4421 معلماً.

ويبلغ متوسط الرواتب لأغلبية الموظفات والموظفين في الإدارة الذاتية 70 دولاراً تقريباً في الشهر، ويصل راتب الموظفين الأعلى رتبة إلى 150 دولاراً. وهو أقل بنسبة النصف إلى الربع، من الحد الأدنى المطلوب لإعالة أسرة مؤلفة من 5 أشخاص. ورغم أن هذا الأجر أعلى من متوسط الأجور الرسمية في منطقة سيطرة النظام، إلا أنه لا ينقذ الموظفات وعائلاتهن من حالة الفقر المدقع، وفق معايير البنك الدولي الذي حدد خط الفقر المدقع بأقل من مبلغ 2.15 دولار في اليوم للفرد. 

حسب تقديرات متواترة يبلغ عدد سكان منطقة شرق الفرات في دير الزور 800 ألف نسمة، ربعهم أو ثلثهم من النازحين القادمين من منطقة سيطرة النظام. وباعتبار سن العمل يبدأً من سن ال 18 وينتهي في ال 65، يقدر عدد النساء في هذا السن ب 100 ألف امرأة، وبناء على ذلك التقدير تشغّل الإدارة الذاتية 6 بالمئة من النساء في دير الزور، وتستوعب الأعمال الزراعية والأعمال التجارية والحرفية الصغيرة، النسبة الأكبر من العاملات. 

وكما في الماضي، بقيت الزراعة وتربية الماشية العمل الرئيسي للمرأة الريفية، مع التمييز بين حالتين، العمل غير المأجور إن كان لدى العائلة، والعمل بأجر يومي إن كان لدى الآخرين. وإلى حد ما تلبي أجور المياومة بعض الاحتياجات الشخصية والأسرية البسيطة للعاملات، إلا أن قلة هذه الأجور وتقطع العمل بين موسم عمل وآخر، يجعلها بلا قيمة مؤثرة في حياة النساء. تقول عاملة زراعية مياومة من منطقة الكسرة، أن أجر العاملة في ورشتها هو 5 آلاف ليرة (30 سنتاً تقريباً) في الساعة، وهو لا يكفي لإعالة أسرة حتى وإن عملت 10 ساعات في اليوم، و30 يوماً في الشهر، وهذا لا يحدث إلا في أوقات متباعدة في المواسم الزراعية المختلفة. ومن النادر في مجتمع ما يزال يحرم المرأة نصيبها من الإرث في الأرض، أن تمتلك امرأة رأس مال أو أصول، ولهذا لا تجد النساء فرص اكتفاء واستقلال اقتصادي في قطاع الزراعة الذي يعاني من آثار الحرب والتغيّر المناخي وارتفاع تكاليف الإنتاج. بعكس قطاعات أخرى وأهمها التجارة والحرف. حيث وجدت النساء فرص عمل داخل هذين القطاعين الناميين، نتيجة التغيرات الكبيرة التي مرت بها المنطقة. وتحت ضغط الحاجة الماسة وخصوصاً في حالة الأسر التي فقدت المعيل، اندفعت الأمهات اللواتي قتل أزواجهن أو سجنوا أو اختفوا أو تخلوا عنهن بعد الزواج بامرأة أخرى، إلى العمل في الأسواق المتضخمة في المدن والبلدات الريفية، مثل البصيرة وهجين وذيبان وسويدان وأبو حمام. فمنذ 2019 تزايد وبوضوح عدد النساء العاملات في هذه الأسواق، إما أجيرات في المحلات التجارية، أو بائعات لحسابهن الخاص في بعض المحلات المستأجرة، أو على العربات الصغيرة والأرصفة. كما ازداد عدد العاملات في بعض الحرف وخصوصاً الخياطة وتزيين الشعر للنساء.

وإلى جانب تأثير الحاجة والتغيرات السياسية والاقتصادية في المنطقة، كان لمنظمات المجتمع المدني التي وصل عددها إلى 70 منظمة محلية تقريباً في العام 2024، تأثير واضح في انخراط المرأة في سوق العمل. إذ كانت النساء فئة رئيسية مستفيدة من مشاريع المجتمع المدني، وخصوصاً مشاريع الحماية ومشاريع التمكين الاقتصادي أو المشاريع الصغيرة التي تتلخص بمنح المستفيدة رأس مال صغير، بين 1 إلى 3 آلاف دولار، لافتتاح مشروع تديره وتملكه امرأة واحدة. تسبقه دورة تدريب مهني. وتنوعت المشاريع بين المشاريع التجارية مثل البقالة، والمهنية مثل محلات الخياطة وصالونات تزيين الشعر، إضافة لمشاريع البقرة الواحدة.  لكن المساهمة الأهم لمنظمات المجتمع المدني هو دورها الكبير في تعزيز ثقة النساء الاقتصادية بأنفسهن، وإطلاق روح المبادرة في أوساطهن، من خلال أمثلة الاعتماد على الذات المتجسدة بالمشاريع الصغيرة. فكل مشروع ينجح بتحقيق الاستقلالية والاكتفاء لامرأة واحدة، يلهم العديد من النساء الأخريات حولها.

آثار الحرب والسلطة والمجتمع: تحديات المشاركة الاقتصادية للنساء

أصبح للمرأة دور اقتصادي واضح في عهد الإدارة الذاتية في دير الزور، حدّت من تطوره عوامل عدة يرتبط أبرزها بالتدهور الاقتصادي المزمن، وبعض مظاهر المحسوبية والفساد في أوساط السلطة على المستوى المحلي، وطبيعة المجتمع العشائري وبعض تقاليده وأعرافه.

وإن ارتفعت نسبة مشاركة النساء في القوى العاملة في منطقة شرق الفرات في دير الزور وتبوأ بعضهن مناصب قيادية، إلا أن القيمة الاقتصادية لهذه المشاركة ما تزال صغيرة. ويصعب استعمال بعض معايير التقييم، في حالة اقتصاد الحرب المزمنة التي تهيمن على الاقتصاد المحلي، رغم توقف الأعمال القتالية الكبيرة منذ العام 2019.

وبمقتضى الحال لم تجد المرأة موقعاً إلا على الهامش في هذا الاقتصاد الذي يحتكر الرجال مجالاته المربحة، وأهمها التهريب والتجارة من وإلى منطقة سيطرة النظام عبر نهر الفرات. ولا يمكن أن يتطور الدور الاقتصادي للمرأة إلا في بيئة اقتصادية طبيعية، تمنحها الشعور بالاستقرار والحماية، وتفتح أمامها سبل الصعود. فما زالت المرأة تعمل في المستويات الدنيا من قطاع الزراعة والقطاعين التجاري والحرفي.

وباستثناء روح المبادرة الاقتصادية التي اكتسبتها المرأة، تبقى مكتسباتها القليلة والصغيرة الأخرى تحت تقلبات اقتصاد الحرب الذي تؤثر فيه التوترات والاضطرابات الأمنية، وتحت تهديد التدهور الاقتصادي المزمن الذي أبقى دير الزور في قائمة أفقر المحافظات السورية. يقول تقرير للبنك الدولي صدر في أيار 2024، أن 50  بالمئة من الفئات الأشد فقراً تعيش في محافظات دير الزور وحلب وحماة، وتسجل دير الزور إلى جانب المحافظات الأخرى في شمال شرق سوريا، أعلى معدل انتشار للفقر، ويؤكد التقرير أن الأسر التي تعيلها النساء والأسر النازحة داخلياً هي الأكثر عرضة لمخاطر الفقر.

في السنوات الأولى من عمر الإدارة الذاتية في دير الزور، ركزت الإدارة على الجانب الأمني وعلى استكمال بناء مؤسساتها، ما جعل تحسين الواقع الاقتصادي في المرتبة الثانية من أولوياتها. وبالنسبة للمرأة، ظهر التأثير الاقتصادي للإدارة في شريحة الموظفات في مؤسساتها فقط. ولكن مقارنة بعض الجوانب مع الماضي قبل الثورة، تثبت أن على الإدارة الذاتية أن تبذل المزيد من الجهود في تحسين ظروف العاملات لديها. فمن ناحية الأجر كان متوسط أجور الموظفات الحكوميات -والموظفين-  يبلغ 200 دولار في العام 2010، وكان قانون العاملين الموحد، يمنح ضمانات متنوعة في حالات الإصابة والوفاة فضلاً عن الراتب التقاعدي (للموظفين الدائمين) وتعويض نهاية الخدمة (للموظفين المتعاقدين)، في حين لا يوجد قانون عمل مطبق اليوم في منطقة الإدارة الذاتية، رغم صدوره في العام 2020. حيث باشرت معظم الموظفات أعمالهن في الإدارة بموجب تكليف، لا يمنح المرأة العاملة أي حقوق سوى إجازات الأمومة وتعويضاً مقداره قيمة ثلاث رواتب في حالة الإصابة أثناء العمل أو الوفاة.

وكان من اللافت تعدد اللجان والتنظيمات الخاصة بالنساء داخل الإدارة، لكنها لا تحمي الموظفات أحياناً من التنمر والممارسات العدائية، لأن تدخل هذه اللجان يتطلب أن تقدم الموظفة المتضررة شكوى رسمية ضد المتنمرين، وهذا لا يحدث عادة خوفاً من إثارة المتاعب والمشكلات الاجتماعية.

ورغم تولي النساء مسؤوليات قيادية في مواقع الرئاسات المشتركة، إلا أن بعضهن لا يمارس أدواره كما ينبغي، إما بسبب هيمنة الرؤساء المشتركين واستحواذهم على سلطة اتخاذ القرار، أو رغبة بتجنب المتاعب والضغوط التي تجلبها المناصب.  تقول قيادية سابقة في الإدارة أن شخصيتها القوية وعشيرتها الكبيرة، مكناها من ممارسة دورها الوظيفي من دون تردد، في حين تتوارى بعض الرئيسات المشتركات خلف شركائهن الرجال في الرئاسة. ولا تنحصر أزمة القيادة بالعلاقة مع الرؤساء المشتركين، بل تمتد إلى العلاقة مع المرؤوسين، الذين يتجاهل بعضهم أحياناً الأوامر الوظيفية الصادرة عن نساء.

ومع التأكيد على المساهمة النوعية لقطاع المجتمع المدني في القضية الاقتصادية للنساء، إلا أنه لم يسلم هو الآخر من العقلية والثقافة الذكورية، فمن أصل 70 منظمة مجتمع مدني محلية، لا يتجاوز عدد النساء في منصب الرئيس التنفيذي الخمسة، وجاء تسجيل معظم النساء ضمن مجالس الإدارة شكليّاً واستجابة لشروط الترخيص، باستثناء منظمتين نسويتين أو ثلاثة، تديرها النساء ولكنها لا تصنف بين المنظمات النشيطة والكبيرة على مستوى المنطقة.

التوصيات:

1-على الإدارة الذاتية، زيادة رواتب الموظفات والموظفين في مؤسساتها إلى الحد الذي يضمن لهم الكفاية ومتطلبات العيش الكريم. وعليها أن تصدر قانون عمل جديد أو تطبق القانون السابق، بما يحدد وبوضوح آليات التعاقد بين العاملين والجهات المشغّلة لهم، وبما يضمن الحقوق الأساسية للعاملين، ويحمي الموظفات خاصة من التنمر والعنف اللفظي. 

2-على المانحين زيادة مساهماتهم في تمويل مشاريع التدريب المهني والتمكين الاقتصادي التي تستهدف النساء

3-على منظمات المجتمع المدني البحث عن أنواع جديدة من مشاريع التمكين الخاصة بالنساء، بما يساعد على اقتحامهن مجالات عمل جديدة، تمنحهن فرصاً ومساهمة أكبر في الاقتصاد المحلي.